سورة الإنسان - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإنسان)


        


{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
قوله تعالى: {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى: فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ، وثياب سندس خبره، والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، فإن قيل: عاليهم مفرد، وثياب سندس جماعة، والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً، قلنا: المبتدأ، وهو قوله: {عاليهم} وإن كان مفرداً في اللفظ، فهو جمع في المعنى، نظيره قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية: وهي فتح الياء، فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه:
الأول: أنه نصب على الظرف، لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب، كما كان قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأنفال: 42] كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني: أنه نصب على الحال، ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها: قال أبو علي الفارسي: التقدير: ولقاهم نضرة وسروراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس.
وثانيها: التقدير: وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس.
وثالثها: أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان، حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس.
ورابعها: حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، حال ما يكون عاليهم ثياب سندس، فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول: تكون الثياب الأبرار، وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث: في سبب هذا النصب، أن يكون التقدير: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس.
المسألة الثانية: قرأ نافع وعاصم: خضر واستبرق، كلاهما بالرفع، وقرأ الكسائي وحمزة: كلاهما بالخفض، وقرأ ابن كثير: خضر بالخفض، واستبرق بالرفع، وقرأ أبو عمرو وعبدالله بن عامر: خضر بالرفع، واستبرق بالخفض، وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع، أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب، وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة، وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس، لأن سندس أريد به الجنس، فكان في معنى الجمع، وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع، كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال: إنه قبيح، والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم: حصى أبيض وفي التنزيل {مّنَ الشجر الأخضر} [يس: 80] و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته، وأما استبرق فيجوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً، أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب، كأنه قيل: ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل: ثياب سندس واستبرق، والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال: ثياب خز وكتان، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31] واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف.
المسألة الثالثة: السندس ما رق من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه، وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ثم قيل: إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون، وقيل: بل هذا لباس الأبرار، وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال: {عاليهم} وقيل هذا من تمام قوله: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} ومعنى {عاليهم} أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: قال تعالى في سورة الكهف: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [الكهف: 31] فكيف جعل تلك الأساور هاهنا من فضة؟ والجواب: من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا.
وثانيها: أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب، فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم، وميله إليه أشد.
وثالثها: أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس.
السؤال الثاني: السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب؟
الجواب: أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً، وقيل: هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط، ثم غلب في اللفظ جانب التذكير، وفي الآية وجه آخر، وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية، فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب، فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار الذهب والفضة، فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة، وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وبالجملة فقوله: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} إشارة إلى قوله: {والذين جاهدوا فِينَا} وقوله: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} إشارة إلى قوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] فهذا احتمال خطر بالبال، والله أعلم بمراده.
قوله تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} الطهور فيه قولان: الأول: المبالغة في كونه طاهراً، ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها: أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا.
وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة، وما داسته الأقدام الدنسة.
وثالثها: أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني: في الطهور أنه المطهر، وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما: قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما: قال أبو قلابة: يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور، مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة، والأشياء المؤذية، فإن قيل: قوله تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ} هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور، والزنجبيل، والسلسبيل أو هذا نوع آخر؟ قلنا: بل هذا نوع آخر، ويدل عليه وجوه:
أحدها: دفع التكرار.
وثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال: {وسقاهم رَبُّهُمْ} وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره.
وثالثها: ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون، فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك، وكل ذلك يدل على المغايرة.
ورابعها: وهو أن الروح من عالم الملائكة، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع، ومن نور إلى نور، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة، بل فنيت، لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته، وذلك هو آخر سير الصديقين، ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال، فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}.
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء، قال تعالى:


{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
اعلم أن في الآية وجهين:
الأول: قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم لنعيمها: إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت، فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم، كما قال حاكياً عن الملائكة: إنهم يقولون لأهل الجنة: {سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24] وقال: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم، فإنه يقال للمعاقب: هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه، ويقال للمثاب: هذا بطاعتك، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره، والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمراً، أي ويقال لهم: هذا الكلام الوجه الثاني: أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة، أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي، لكم خلقتها، ولأجلكم أعددتها، وبقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: إذا كان فعل العبد خلقاً لله، فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله؟
الجواب: الجزء هو الكافي، وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله تعالى.
السؤال الثاني: كون سعي العبد مشكوراً لله يقتضي كون الله شاكراً له والجواب: كون الله تعالى شاكراً للعبد محال إلا على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: قال القاضي: إن الثواب مقابل لعلمهم، كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني: قال القفال: إنه مشهور في كلام الناس، أن يقولوا: للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات، وإعطاؤه إياهم عليه ثواباً كثيراً الوجه الثالث: أن منتهى درجة العبد أن يكون راضياً من ربه مرضياً لربه على ما قال: {ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28] وكونها راضية من ربه، أقل درجة من كونها مرضية لربه، فقوله: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء} إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} إشارة إلى كونها مرضية لربه، ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.


{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23)}
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج، والمراد منه إما كونه مخلوقاً من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية، فلذلك يدل على أنه لابد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه. ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعاً عاطلاً باطلاً، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان، وإليه الإشارة بقوله: {نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] وهاهنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر والعقل، وإليه الإشارة بقوله: {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر، فقال: {إِنَّا هديناه السبيل} [الإنسان: 3] ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين: منهم شاكر، ومنهم كفور، وهذا الإنقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء، وهو إلى قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [الإنسان: 22] واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين.
أما المطيعون فهم الرسول وأمته، والرسول هو الرأس والرئيس، فلهذا خص الرسول بالخطاب.
واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره، وإنما فعل ذلك، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء، ثم بعد الفراغ عن النهي، ذكر أمره ببعض الأشياء، وإنما قدم النهي على الأمر، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار، وله الشكر عليه أبد الآباد.
ولنرجع إلى التفسير، فنقول: أما تلك المقدمة فهي، قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسماً، لأن تأكيداً على تأكيد أبلغ، كأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي، وهذا فيه فائدتان:
إحداهما: إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار، فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السموات عظمه وصدقه.
والثانية: تقويته على تحمل التكليف المستقبل، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة، وكان ذلك شاقاً عليه، فقال له: {إِنَا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} فكأنه قال له: إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقاً منجماً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل.
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8